خواطر معلم
"حكايتي مع الايام"
لم يخطر ببالي أنني سأغادر ارض الوطن يوماً ، أحببت التنقل والتجوال على تراب وطني ، بعد اتمام المرحلة الجامعية الأولى عملت معلماً في طولكرم ، وبعد شهور توقفت عن العمل بقرار قيادة الضفة الغربية للاحتلال مع مجموعة صغيرة من المعلمين ثم دخلنا في دائرة المطاردة والتضييق والاقامة الجبرية والمنع من ممارسة الحياة العادية ..... لم يكن هناك انتفاضات في العام 1982م بل كان الناس مستسلمين لأقدارهم ، وكنا نحن الوحيدين في دائرة الاستهداف فانحسرت الأمنيات وقلّ النصير وبقي باب الرحمن مشرعاً نحو الرجاء ..... فكان ترك الوطن هو أسوأ خيار واجهته في حياتي – ما تذكرته إلا وغرقت في الأسى والندم - ، خرجت من البلاد نحو الأردن ومن هناك يممت جنوباً الى ان اصطدمت بجبال اليمن ..... توقفت هناك مشدوهاً بتلك الشواهق التي تنخلع الرقاب ببلوغ ذروتها وتذكرت كيف حبس سليمان عليه السلام الجن في جبال عسير وتهامتها ؟!
اذن انا الآن في جبال اليمن وعلي أن استأنف مهنتي بل رسالتي كمعلم في تلك الأرض البالغة القسوة ، عربان وقبائل تطحنهم البداوة ، مدارس بدائية بُنيت باللبن والأخشاب وكل ما يسمى بالمؤسسات على هذه الشاكلة وهي ملك للبدو ومستأجرة منهم؟!
فلم يكن هناك مؤسسات ومقار مملوكة للدولة ، بقاع شاسعة بلا شوارع معبدة ، فقط طرقات تنساب بين الجبال ووسط الوديان والتلال حتى اذا هطلت أمطار الصيف الموسمية سالت الأودية والشعاب وأحدثت تدميراً وربما قتلت عدداً من الناس ، البرق والرعد يقصف ذرى وسطوح الجبال بقسوة بالغة يخاف منها الناس ، ويُقتل بعض البدو بسبب ذلك – بلا ماء صالح للشرب ولا كهرباء ولا خدمات أساسية ..... في هذه الأجواء والمناخات كان عليّ أن أقوم بممارسة مهنتي – التي أحببتها دوماً وزهوت بها على الأيام – برغم انحطاطها في بلادنا وزهد الناس فيها – في تلك القفار كانت الدولة تدفع للطلاب راتباً شهرياً تشجيعاً لهم على الاستمرار في الدوام المدرسي .
لغة الناس كانت مبهمة وغير مفهومة على الاطلاق واحتاج الأمر لفترة من الزمن لكي نفهم ما يقولون . كان التلاميذ في تلك الديار اذكياء يحفظون المعلومة سريعاً ، لاحظت أن التلاميذ عموماً مهذبون يحترمون الغرباء خصوصاً المعلمين ، كنت افضل استعمال الأسلوب القصصي كثيراً مع الحوار والمناقشة في توصيل المعلومات وخصوصاً القصص القرآني ، اسلوب التمثيل والربط مع الواقع كان صعباً سيما وأننا لا نعرف عادات القوم وتقاليدهم ومجريات حياتهم .
لاحظت أن الأمهات يحضرن الطعام لأولادهن الى المدرسة ، وصل الى هناك الكثير من المعلمين الجدد وغادروا على الفور كانوا يندهشون من استقراري في تلك الطبيعة البالغة القسوة – وكيف استطيع التعايش مع تلك القبائل – اعتقد الآن وبعد هذه السنوات ان انتزاعي القسري من موطني هو الذي جعلني لا أبالي بعدها أين أكون وكيف أحيا؟
كنت أشعر بأن قسوة ابعادي عن الوطن وانتزاعي من احضانه الدافئة وهوائه العليل تهون بإزائها كل الصعاب مهما كان لونها.
هناك عرفني البدو والعربان وسكان القرى والنجوع الصغيرة وكانوا ينادونني (ياأستاذ) أحبوني كثيراً ( قرأت ذلك في عيونهم ) كانوا يوقفوني في الطرقات كي يمازحونني ، كانت نساؤهم تُسلّم علي في دروبهم الوعرة وكن يداعبنني بأنهن يُردن أن يزوجنني من بناتهن في كثير من الأحيان كنت اتذكر الصحفي النمساوي محمد اسد وهو يروي ما حصل معه في قرية الرينة في الجليل الفلسطيني في كتابه } الطريق الى مكة{ وهو يقول :- ما أجمل أن ينزل
الإنسان ضيفاً على العربي ؟!
كانوا يُدخلوني في كثير من قضاياهم الاجتماعية و يثقون بي ، شاركتهم دائماً في مناسباتهم الاجتماعية وكنت ارزُف كما يرزُفون ، امتطيت الريح وجلت طويلاً في تلك الجبال التي تعج بالقردة والسباع وعبر الجدبان الوعرة
كنت أعبر الطرق الموحشة ..... أشرفت على أحلامي المحطمة وكنت أتصفحها بلا كلل علني أعثر على عزاء لي في غربتي الطويلة .... هناك خلف تلال الضياع والذرى الملتصقة بالسماء اقتربت كثيراً من الله .... ارتحلت كثيراً عبر الصحراء وفي تلك المجاهيل ، كتبت أشعاري ونسخت خواطري على صفحات صخر تهامة الساحر .... نسجت خيوط الليل الطويل في قصة أيامي وشوق مدامعي – بل ان أجمل ما كتبت كان من بوادي عسير وحر الهواجر في جبال اليمن .... راسلت صحف العالم وانتشرت خواطري وأفكاري في كثير من القارات ، كنت أسافر عبر الطرق الترابية الشديدة الوعورة فنترك سيارتنا أسفل الجبل ونصعد المنحدرات الهائلة لندرك القرى التي تتربع فوق القمم وبعد انتهاء الدوام نعود أدراجنا .
يعيش الناس هناك في غرف بدائية متناثرة ولايعرفون المرافق والملحقات ، وعندما حطت رحالنا هناك وشيدّنا حول غرفنا أسواراً من اللبن وبنينا مرافق وحمامات تمكن المرء من ممارسة الحياة فأعجب البدو كثيراً بصنيعنا وكانوا يقولون ( نحن لانفهم الحياة ) ببساطة مجردة – حيث أن الواحد منهم كان يقضي حاجته في العراء؟! وبدؤوا يقلدوننا فشيدوا الأحواش والمرافق .
في ذلك القفر البعيد التقيت بطبيب فلسطيني يعمل في مستوصف لعلاج البدو في قرية شديدة الوعورة اسمها ( لاتين ) انه الدكتور عبد الرحيم أبو صالح من قرية بيت ليد رحمه الله رحمة واسعة ، شعرت أنني عثرت على ضالتي فعبد الرحيم اختار هو الآخر منفاه وعشِقه لدرجة الهيام فكان لا يخرج من تلك الجبال الا نادراً ، كنت التقيه فنقضي الليالي الطوال نسأل عن الوطن وأخبار الأحبة قرأنا أحلامنا وتصفحنا الذاكرة بالقرب من موقد لصنع الشاي مع الزعتر الفلسطيني الذي أحضره عبد الرحيم ؟! فيطيب السمر ونطلق العنان لفلسفة البوح.
لم يكن اغترابي لتحسين الأحوال ولم أعبر الصحراء استثماراً ،في تلك الأيام أوصدت في وجوهنا كل الأبواب وتركوا لنا باب الصحراء مشرعاً فبدأت أكتب قصيدة الغربة والتشرد والتيه الكبير .
إن استقرارنا هناك كان يعني تمردنا على واقعنا الفلسطيني المعاش آنذاك ، حافظت على التزامي الإنساني والأخلاقي والعلمي والديني بحدود رسالتي كمعلم ومربي للأجيال ، لم أبرح هذا الموقع على الإطلاق ولا زلت أرابط فيه حتى هذه الأيام .
أتذكر العساكر والضباط من البدو من طلابنا كيف كان الواحد منهم يوقف سيارته لمجرد رؤيتي فيترجل منها ويسرع نحونا كالبرق فيعانقني ويقبل رأسي ، الناس في تلك البقاع بسطاء ويسهل التعامل معهم .
هناك في الأفق البعيد خلف جبال الصحراء رُزقت بمولودة أسميتها بلقيس فكنت أغني لها كلمات نزار قباني :
بلقيس ... ياوجعي
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل ياترى...
من بعد شَعرك سوف ترتفع السنابلْ ؟
بلقيس لا تتغيبي عني
فإن الشمس بَعدكِ
لا تضيء على السواحل
فيضحك ثغرها ليشتعل الحنين وتجيش الذكريات ويسافر القلب إلى الزمن الجميل وعندما استبد بي الحنين إلى ارض صباي ومدارج خطواتي الاولى وراعني شذور الحنين وآلمني التشرد والضياع والبحث المضني عن شواطئ الروح التي خلفتها ورائي هناك في الوطن الحبيب حاولت التصالح مع الزمن فركبنا مطايانا وقفلنا راجعين إلى وطن الصفاء والوفاء بعد سنوات طويلة ابحث عن لحنٍ ضاع في صندوق عود